أولاً: الآيات القرآنية:
اتخذت الآيات القرآنية نمطين في تقرير هذه القضية:
النمط الأول: آيات صريحة نصت على وفاته -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-، ومن هذا
النمط ما يلي:
1- قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران: 144.
قال القرطبي: فأعلم الله جل جلاله-تعالى- في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في
قومها أبداً، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل، وإن فقد الرسل بموت أو
قتل(1).
2- وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الزمر: 30.
قال ابن كثير: هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق -رضي الله جل جلالهعنه-
عند موت الرسول -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- حتى تحقق الناس موته(2).
3- وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} الأنبياء: 34.
النمط الثاني: آيات أشارت إلى ذلك وإن لم تصرح، ومنها:
1- قال تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} الضحى: 4-5.
2- وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ
ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} الرحمن: 26-27.
3- وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص: 88.
فهذه الآيات تبين أن جميع أهل الأرض ستمضي فيهم سنة الله، سيموتون ولن
يتخلف منهم أحد أبداً.
4- وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}المائدة: 3.
قال الحافظ ابن كثير: ورينا من طريق جيد أن عمر بن الخطاب حين نزلت الآية
بكى، فقيل ما يبكيك؟ فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان!! وكأنه استشعر
وفاة النبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-(3).
5- وقال تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ
النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} النصر: 1-3.
روى البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب –رضي الله جل جلالهعنه- يدني ابن
عباس(4) فقال: له عبد الرحمن ابن عوف: إن لنا أبناء مثله فقال: إنه من حيث
تعلم، فسأل عمر ابن عباس عن هذه الآية: {إذا جاء نصر الله جل جلالهوالفتح} فقال:
أجَلُ رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها إلا
ما تعلم(5).
وروى الطبراني عن ابن عباس، قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله جل جلالهوالفتح}
نُعيت إلى رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- نفسه حين نزلت فأخذ بأشد ما كان
قط اجتهاداً في أمر الآخرة(6).
ثانياً: الأحاديث النبوية التي أشارت إلى وفاته -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-:
1- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اجتمع نساء رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه
وسلم- عنده، لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية
أبيها فقال: مرحباً بابنتي، فأقعدها يمينه أو شماله، ثم سارّها بشيء فبكت،
ثم سارَّها فضحكت، فقلت لها: خَصّك رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-
بالسِّرار وأنت تبكين؟! فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارّك؟ فقالت: ما كنت
لأفشي سرّ رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-، فلما توفي قلت لها: أسألك لما
لي عليك من الحق لما أخبرتيني، قالت: أما الآن فنعم، قالت: سارّني في الأول
قال لي: (إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا
العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي، فاتقي الله جل جلالهواصبري، فنعم السلف
أنا لك) فبكيت، ثم سارّني فقال: (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين،
أو سيدة نساء هذه الأمة)؟ فضحكت(7).
وفي هذا الحديث دليل قاطع وإشارة واضحة إلى اقتراب أجل رسول الله جل جلاله-صلى الله
عليه وسلم-، وأن ساعة الفراق قد باتت قريبة إلا أن النبي -صلى الله جل جلالهعليه
وسلم- قد اختص ابنته فاطمة -رضي الله جل جلالهعنها- بعلم ذلك، ولم يَعلم به
المسلمون إلا بعد وفاة رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-(
.
2- عن جابر -رضي الله عنه- قال: رأيت النبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- يرمي على
راحلته يوم النحر ويقول: (لِتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحُجُّ
بعد حَجَّتي هذه)(9).
وقال ابن رجب: وما زال -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر
عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا
ألقاكم بعد عامي هذا)(10) فطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع!!(11).
3- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه
وسلم- الناس وقال: (إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عند الله جل جلالهفاختار
ذلك العبد ما عند الله) قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يُخبر رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خُير، فكان رسول الله -صلى الله جل جلالهعليه
وسلم- هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلما(12).
قال الحافظ ابن حجر: وكأن أبا بكر -رضي الله جل جلالهعنه- فهم الرمز الذي أشار به
النبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته فاستشعر منه أنه
أراد نفسه، فلذلك بكى(13).
4- عن العباس بن عبد المطلب قال: رأيت في المنام كأن الأرض تنزع إلى
السماء(14) بأشطانٍ شداد(15)، فقصصتُ ذلك على النبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم-
فقال: (ذاك وفاة ابن أخيك)(16).
5- عن معاذ أن النبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن خرج راكباً
والنبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- يمشي تحت راحلته فقال: (يا معاذ عسى ألا
تلقاني بعد عامي هذا، فتمرَّ بقبري ومسجدي) فبكى معاذ لفراقه -صلى الله جل جلاله
عليه وسلم- فقال: (لا تبك يا معاذ فإن البكاء من الشيطان)(17).
--------------------------------------------------------------------------------
1 - انظر : تفسير القرطبي (4/222).
2 - انظر: تفسير ابن كثير (4/53).
3 - البداية والنهاية (5/189).
4 - يعني نفسه، قال ابن حجر في "فتح الباري" (7/737) هو من إقامة الظاهر
مقام المضمر.
5 - البخاري مع الفتح، كتاب المغازي ، باب مرض النبي ووفاته (7/737) رقم
(4430).
6 - المعجم الكبير (11/328)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/26): رواه
الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد، وأحد أسانيده رجاله ثقات.
7 - البخاري مع الفتح، كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم
يخبر بسر صاحبه (11/82) رقم (6285، 6286)، ومسلم كتاب فضائل الصحابة
(4/1904) رقم (2450).
8 - مرض النبي -صلى الله جل جلالهعليه وسلم- ووفاته، ص (35).
9 - مسلم ، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً،
وبيان قوله صلى الله جل جلالهعليه وسلم لتأخذوا منا سككم (2/943) رقم (1297).
10 - سنن البيهقي الكبرى (5/125).
11 - لطائف المعارف ص (105).
12 - البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي: سدوا الأبواب
إلا باب أبي بكر (7/15) رقم (3654).
13 - فتح الباري (7/16).
14 - تنزع إلى السماء: أي تجذب، وأصل النزع: الجذب والقلع.
15 - بأشطان شداد: الأشطان جمع سطن وهو الحبل.
16 - أخرجه البزار (1/397) كشف الأستار، رقم (844)، قال الهيثمي في مجمع
الزوائد (9/24): رواه البزار والطبراني، ورجالهما ثقات، وأخرجه الدرامي
(2/173) كتاب الرؤيا رقم (2157).
17 - أخرجه أحمد في المسند (5/235) والطبراني (20/121) رقم (242)، والبزار
(1/380) كشف الاستار، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/22): رواه أحمد
بإسنادين ورجال الإسنادين رجال الصحيح غير راشد بن سعد وعاصم ابن حميد وهما
ثقتان، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2497).